الشيخ علي القاري ورسالته "فرائد القلائد على أحاديث شرح العقائد"

الشيخ علي القاري

ورسالته "فرائد القلائد على أحاديث شرح العقائد"

الشيخ علي القاري من أعلام القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين، وله مؤلفات كثيرة، ما بين كتبٍ ورسائل، وأتناول هنا الكلام على واحدة من رسائله، هي: "فرائد القلائد على أحاديث شرح العقائد"[1].

تمهيد:

هذه الرسالة المخطوطة من محتويات مكتبة الأوقاف العامة في بغداد، عثرتُ عليها ضمن مجموعةٍ تحمل الرقم (126/13732)، وتضمُّ (11) رسالة كلها للمصنِّف المذكور، ما عدا رسالتين.

وقد أثارتْ اهتمامي لما لهذا اللون من المُصنَّفات من أهميةٍ بالغةٍ في خدمة السُّنة المطهرة، وتمييزِ صحيحها من الضعيف والموضوع.

ورسالتنا هذه في تخريج أحاديث "شرح عقائد" أبي حفص عمر بن محمد النسفي (ت:537هـ) لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (ت:793هـ).

وهذا الشرح من الكتب المتداولة المقررة للتدريس في الجوامع، والمعاهد العلمية الدينية منذ زمنٍ طويل.

وكان أول مَنْ نهض لتخريج أحاديثه - فيما أعلم - العلامة قاسم بن قُطلوبغا الحنفي (ت:879هـ) وسمّى كتابَه "بغية الرائد في تخريج أحاديث شرح العقائد"[2]

ثم جاء السيوطي فكتب تخريجًا آخر بعد وفاة ابن قطلوبغا بسبع سنين، جاء في آخر تخريجه: "علقته يوم الأحد العشرين من شعبان سنة ست وثمانين وثمانمئة، أحسن الله خاتمتها"[3].

ثم كتب الشيخُ علي القاري "فرائد القلائد"، وهي موضوع حديثي.

وأخيرًا قام بتخريج هذه الأحاديث "كلود سلامة" أثناء تحقيقه لهذا الشرح ونشره،[4] ويبدو أنه لم يطّلع على أي تخريجٍ سابق، لما وقع فيه من أخطاء وعدم استيفاء، وظهور قصورٍ في هذا المجال.

أولاً: نبذة عن حياة القاري

اسمه وولادته:

هو نور الدين علي بن سلطان محمد[5] الهروي المكي الحنفي المعروف بالقاري إذ كان إمامًا في القراءات.

ولد في هراة أعظم مدن خراسان وأجلها شأنًا، ولم يَذكرْ أحدٌ من المؤرخين سنة ولادته.

دراسته ومشايخه:

نشأ القاري في مدينته هراة، وتلقى عن علمائها، ثم رحل إلى مكة المكرمة وأقام فيها، وممن أخذ عنهم في مكة: الأستاذ أبو الحسن البكري، والسيد زكريا الحسيني، والعلامة ابن حجر الهيتمي، والشيخ أحمد المصري تلميذ القاضي زكريا الأنصاري، والشيخ عبد الله السندي، والعلامة قطب الدين المكي، واشتهر صيتُه، وطار ذكرُه.

تلامذته:

منهم محدِّث الهند عبد الحق بن سيف الدين الدهلوي (ت:1052هـ) مؤلف "اللمعات شرح المشكاة"، و"التبيان في أدلة مذهب الامام أبي حنيفة النعمان".

ولابُدَّ أن يكون الآخذون عنه كثيرين، لإمامته في الدين، وإقامته في مكة، وشهرته الواسعة، مما جَعَلَ علماء مصر يصلون عليه في الجامع الأزهر - لما بلغهم خبرُ موته - صلاة الغيبة في مجمعٍ حافل ضمَّ أربعة آلاف نسمة.

مؤلفاته:

قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: "وقد أتاه الله الذكاء النادر، والعقل الراجح، والفهم الدقيق، والصبر على التنقيح والتدقيق، والشغف العجيب بالتحقيق، مع البيان السهل القريب، فأمكنه الغوص في جملة من العلوم، وضرب منها بأوفر سهم، فألف التآليف الكثيرة الفريدة التي أربتْ على (125) مؤلفًا ما بين كتابٍ يزيد على عشرة مجلدات، ورسالةٍ في ورقات، في الفقه، والحديث، والتفسير، والقراءات، والأصول، وعلم الكلام، والفرائض، والتصوف، والتاريخ والطبقات والتراجم، والأدب واللغة والنحو، وعلم الوضع وغيرها، بلغةٍ سهلةٍ ممتعةٍ، وعباراتٍ جامعةٍ مانعةٍ، واستيفاء للبحث نادر غريب، دون أن ترى أثر مسحة فيها لعجمة لغته الأولى"[6].

وقد عَدَّ منها في "هدية العارفين" أكثر من مئة مؤلف،[7] وطُبع منها الكثير، وفي مكتبات العالم من كتبه مخطوطاتٌ كثيرةٌ ممّا يدل على القبول الذي منحه الله إياه[8].

حياته الشخصية:

لا تشير المصادرُ التي بين يدي إلى شيءٍ من ذلك، ولكن هذه الثروة الكبيرة من المؤلفات التي خلفها تجعلنا لا نشك في أنه قضى حياة علمية بحتة.

وقولُه في نهاية شرحه على كتاب "عين العلم وزين الحلم": "وكان الفراغ منه على يد مؤلفه رُحِمَ وغُفِرَ مع سلفه وخلفه...."[9] يعرِّفنا أنَّ له زوجةً وخلفًا.

وذُكِرَ أنه كان يَكتب كل عام مصحفًا بخطه الجميل وعليه طررٌ من القراءات والتفسير، فيبيعه ويكفيه قوته من العام إلى العام"[10].

قالوا عنه:

• قال الشيخ حسين بن محمد سعيد المكي: "علامة زمانه، وواحد عصره وأوانه، والمتفرد الجامع لأنواع العلوم العقلية والنقلية، المتضلع من علوم القرآن والسّنة النبوية، وعالم بلاد الله الحرام، والمشاعر العظام، وأحد جماهير الأعلام، ومشاهير أولي التحقيق والأفهام".

• وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي: "أحد صدور العلم، فرد عصره، الباهر السمت في التحقيق، ومؤلفاته كلها مفيدةٌ بلغته إلى مرتبة المجدِّدية على رأس الألف".

• وقال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: "أحد صدور العلم الأفاضل، وعمدة المحققين الأماثل، الامام المحدِّث الفقيه الأصولي المفسّر المقرئ المتكلم النظّار الفرَضي الصوفي المؤرِّخ اللغوي النحوي الأديب".

وفاته:

كانت وفاته في شوال سنة (1014هـ) في مكة المكرمة، ودُفِنَ في مقبرة المعلاة، ولا عبرة لما ذَكَرَ خلافًا لذلك بعضُ المتأخرين.

رحمه الله وأجزل ثوابه.[11]

ثانيًا: رسالته "فرائد القلائد"

وقع لمفهرس مكتبةِ الأوقاف العامة ببغداد الدكتور عبدالله الجبوري وهمٌ حينما سمّاها: "رسالة في شرح حديث ورد في شرح العقائد"،[12]

ومنشأ هذا الوهم قولُ المصنِّف في فاتحة رسالته: "قد سألني بعضُ الإخوان من خلّص الخلان عن حديثٍ من الأحاديث المذكورة في شرح العقائد للحبر العلامة ...".

ولو أنه تابع القراءة قليلًا لوجد أنَّ السائل سأل القاري عن صحة الحديث لا عن شرحه، يقول المصنّف: "وذكر لي أنه سأل عنه بعض مَنْ ينتمي إلى علم الحديث، ويدّعي أن له قدمًا راسخًا في التفحيص والتحثيث، فأجاب له[13] بأنه غير صحيح، بل غير ثابت صريح، فرأيتُ أن ذلك الحديث أخرجه مسلم في "صحيحه"، ولا يصح لمسلم أن يطعن في تصحيحه، فأحببتُ تخريج أحاديث الكتاب بكمالها، ليكون للطالب اطلاعٌ في الجملة بحالها، وسميتُها: فرائد القلائد على أحاديث شرح العقائد"[14].

حجمها وخطُّها:

تقع في ثلاث ورقات، لا أربعة كما ذكر المفهرس الفاضل، وفي كل صفحة (29) سطرًا، ورقها صقيل، وخطها واضح مفهوم على نعومته، إلا أنها مبتلة بالماء في بعض الأسطر، ومغشاة بسوادٍ في الصفحة الرابعة طمَسَ بعض الكلمات، كما أنَّ في زاوية الصفحة الثالثة بياضَا ذهبتْ بسببه عدةُ ألفاظ.

والرسالة تبدأ من (147) إلى آخر (150)، على أنَّ المجموعة تبدأ ب (104)، وقد كُتبت بالحبرالأحمر كلمة "قوله" صلى الله عليه وسلم في أول كل حديث، وأخطاؤها طفيفة[15].

نسبتُها وعنوانها:

ذكر أكثر مَنْ ترجم للعلامة القاري هذه الرسالة، ولكن بعبارات مختلفة، فقد سمّاها اللكنوي: فرائد القلائد في تخريج أحاديث شرح العقائد[16]، وكذلك الكتاني[17]، وعن الأول نقل الشيخ حسين المكي كما صرح هو، لكنه اقتصر على تسميتها بفرائد القلائد.

أما الأستاذ محمد الصباغ فقد سمّاها "فرائد القلائد على شرح أحاديث العقائد"، وهذه تسمية مغلوطة فيها تقديم وتأخير.

وعند إسماعيل البغدادي كانت التسمية موافقة للمخطوطة[18]، وقد سكت الحاج خليفة عنها، كما في النص الذي نقلتُه عنه في حاشية سابقة.

اتضح من خلال هذا أنَّ أدل تسمية هي تسمية اللكنوي والكتاني، إلا أن ما في المخطوطة وما عند البغدادي يخالفه ويثبت أنَّ العنوان "فرائد القلائد على أحاديث شرح العقائد"، والراجح ما وضعه المؤلف.

تاريخها وطريقة مؤلفها:

جاء في آخرها: "قال مصنِّفه ما نصه: وقد وقع الفراغ من تسويده، بعون الله وحسن توفيقه وتأييده[19] في الحرم الشريف المكي بعد هجرة النبي المصطفوي، في شهر شوال، ختم بالخير والإقبال عام أربع بعد الألف، ختم الله لنا بالحسنى، وبلغنا المقام الأسنى، آمين يا رب العالمين" ومِنْ هذا يظهر أنه ألفها قبل موته بعشر سنين.

وطريقته أنه يذكر الحديث بكامله، ثم يذكر مَنْ رواه.

مصادره:

نقل القاري في رسالته عن الإمام السيوطي مرتين، لكنه لم يُصرِّح بمصدر النقل، وحين وقع بيدي مؤخرًا تخريجُ السيوطي الآنف الذكر وجدتُ أن ما نقله القاري عنه كان من تخريجه، بل ظهر بعد المقابلة أنه أخذَ كل ما عند السيوطي، وأسقطَ منه أشياء، وزادَ فيه أشياء ليستْ بالكثيرة نقلها عن النووي، وابنِ الديبعِ الشيباني، والسيوطيِّ نفسه في كتابيه "الجامع الصغير لأحاديث البشير النذير"، و"شرح الصدور في أحوال القبور"، إلا أنه لم يكنْ مُوفقًا في إسقاط بعض الجمل المنقولة، لأنها كانتْ من تمامِ المعنى ومقتضى التخريجِ، وهو في كل هذا لم يصرِّحْ بما أخذه مِنْ السيوطي!

أمثلة على النقل والتصرُّف:

1. قال السيوطي: "حديث: "البينة على المدعي واليمين على مِنْ أنكر:

أخرجه بهذا اللفظ الشافعي في "الأم" من حديث ابن عباس بسند صحيح، وأخرجه الترمذي والدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده".

وقال القاري: "أخرجه الشافعي في "الأم" بهذا اللفظ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه الترمذي والدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بسند ضعيف، وأصله في الصحيحين بلفظ: اليمين على المدعى عليه.

وقال النووي: حديث حسن رواه البيهقي وغيره هكذا، وبعضه في الصحيحين - يعني اليمين على المدعى عليه -".

2. قال السيوطي: "قوله - أي التفتازاني - في الإلهام: وقد ورد القول به في الخبر.

قلت: يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي هريرة".

وأسقط القاري هذا.

3. قال السيوطي: "حديث: "اللهم اهدِ قومي، وتمامه فإنهم لا يعلمون.

أخرجه بهذا اللفظ البيهقي في "الشُّعب" عن عبد الله بن عبيد وقال: مرسل. وأخرجه من وجهٍ آخر موصولاً عن سهل بن سعد لكن بلفظ: اللهم اغفر لقومي".

وقال القاري: "أخرجه البيهقي بهذا اللفظ في "شُعب الايمان" عن عبد الله بن عبيد".

4. قال السيوطي: قوله (التفتازاني):

ورد في الحديث أن كتب الأعمال هي التي توزن. الحديث الوارد في ذلك هو حديث البطاقة، أخرجه أحمد، والترمذي وحسّنه، وابن ماجه، والحاكم وصححه، من حديث ابن عمر".

قال القاري: "هو حديث البطاقة، أخرجه الإمام أحمد، والترمذي وحسّنه، وابن ماجه، والحاكم وصححه، من حديث ابن عمر".

5. قال السيوطي: "حديث: أكرموا أصحابي فإنهم خياركم.

ورد معناه في عدة أحاديث".

وقال القاري: "ورد معناه في عدة أحاديث، وهو مفهوم الحديث السابق"[20].

6. قال السيوطي: "حديث: إذا أحبَّ الله عبدًا لم يضرّه ذنب.

أخرجه القشيري في "رسالته"، وابن النجار في "تاريخه" والديلمي عن أنس".

وقال القاري: "ورد في معناه ما رواه الإمام أحمد وابن حيان عن أبي سعيد مرفوعًا: إن الله إذا رضي [على] العبد أثنى عليه بسبعة أصناف من الخير لم يعمله، وإذا سخط على العبد أثنى عليه بسبعة أصناف من الشر لم يعمله.

7. قال السيوطي: "حديث: إن العالم والمتعلم إذا مرّا على قرية فإنَّ الله يرفع العذاب عن مقبرة تلك القرية أربعين يومًا:

لا أصل له

وقال القاري: "قال الحافظُ الجلالُ: لا أصل له".[21]

وهذا يفيد أن تخريج السيوطي كان تحت يده.

••••

وبعد: فلعله تبيَّن ممّا سبق أنَّ جهد المؤلف كان قليلًا، وغالبُ ما أتى به أخذه من السيوطي.

وكنتُ قد عقدتُ العزم على تحقيق هذه الرسالة[22]، وتبيينِ الفرق بين التخريجين بالكامل، ثم توقفتُ، فقد أخبرني الأستاذُ الفاضلُ الشيخ صبحي السامرائي أنه حقَّق تخريج السيوطي، وهو تحت الطبع، ومعه تخريجُه لأحاديث شرح المواقف للجرجاني.

ثم أخبرني الشيخ حمدي عبد المجيد السَّلفي أنه حقَّقهما أيضًا.

ولهذا اكتفيتُ بهذه الكلمات أعرضُها أمام الأخوة الدارسين خدمة لكتب السُّنة المطهرة، ومن الله التوفيق.

ورحم اللهُ الشيخ علي القاري وجزاه خيرًا على جهوده في خدمة العلم والدين.